7 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ، وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ }
" عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، يَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبْدِ مَنَافٍ . أَسْلَمَ قَدِيمًا . وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ . وَتَزَوَّجَ بِنْتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، لِثَمَانِي عَشَرَةَ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ . وَمَوْلَاهُ " حُمْرَانُ بْنُ أَبَانَ بْنِ خَالِدٍ كَانَ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ . ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى الْبَصْرَةِ . احْتَجَّ بِهِ الْجَمَاعَةُ . وَكَانَ كَبِيرًا . الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : " الْوَضُوءُ " بِفَتْحِ الْوَاوِ : اسْمٌ لِلْمَاءِ ، وَبِضَمِّهَا : اسْمٌ لِلْفِعْلِ عَلَى الْأَكْثَرِ . وَإِذَا كَانَ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمًا لِلْمَاءِ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - فَهَلْ هُوَ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْمَاءِ ، أَوْ لِلْمَاءِ بِقَيْدِ كَوْنِهِ مُتَوَضِّئًا بِهِ ، أَوْ مُعَدًّا لِلْوُضُوءِ بِهِ ؟ فِيهِ نَظَرٌ يَحْتَاجُ إلَى كَشْفٍ . وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ . وَهُوَ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اُسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ : قَوْلُ جَابِرٍ " فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ " فَإِنَّا إنْ جَعَلْنَا " الْوَضُوءِ " اسْمًا لِمُطْلَقِ الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ " فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ " دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ . ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ : فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ مَائِهِ . وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَاؤُهُ هُوَ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِي أَعْضَائِهِ . ؛ لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ عَلَى أَنَّ " الْوَضُوءَ " اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْمَاءِ . وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ : جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِوَضُوئِهِ : فَضْلَةَ مَائِهِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِبَعْضِهِ ، لَا مَا اسْتَعْمَلَهُ فِي أَعْضَائِهِ . فَلَا يَبْقَى فِيهِ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ . وَإِنْ جَعَلْنَا " الْوَضُوءَ " بِالْفَتْحِ : الْمَاءَ مُقَيَّدًا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوُضُوءِ - بِالضَّمِّ " أَعْنِي اسْتِعْمَالَهُ فِي الْأَعْضَاءِ ، أَوْ إعْدَادَهُ لِذَلِكَ : فَهَاهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : فِيهِ دَلِيلٌ . ؛ لِأَنَّ " وَضُوءَهُ " بِالْفَتْحِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَائِهِ الْمُعَدِّ لِلْوُضُوءِ بِالضَّمِّ ، وَبَيْنَ مَائِهِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْوَضُوءِ . وَحَمْلُهُ عَلَى الثَّانِي أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ ، أَوْ الْأَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنَى الْمُعَدِّ مَجَازٌ . وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الْأَقْرَبِ إلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى .
الثَّانِي : قَوْلُهُ " فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ " فِيهِ اسْتِحْبَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا . وَالْحَدِيثُ الَّذِي مَضَى يُفِيدُ اسْتِحْبَابَهُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ ، وَأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ عَدَمِ الْقِيَامِ : الِاسْتِحْبَابُ ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ : الْكَرَاهِيَةُ لِإِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا الثَّالِثُ : قَوْلُهُ " عَلَى يَدَيْهِ " يُؤْخَذُ مِنْهُ : الْإِفْرَاغُ عَلَيْهِمَا مَعًا . وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " أَنَّهُ أَفْرَغَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، ثُمَّ غَسَلَهُمَا " . قَوْلُهُ : " غَسَلَهُمَا " قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كَوْنِهِ غَسَلَهُمَا مَجْمُوعَتَيْنِ ، أَوْ مُفْتَرِقَتَيْنِ . وَالْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ . الرَّابِعُ : قَوْلُهُ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " مُبَيِّنٌ لِمَا أُهْمِلَ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِي حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ " إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ " رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا : ذِكْرُ الْعَدَدِ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ .
الْخَامِسُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ تَمَضْمَضَ " مُقْتَضٍ لِلتَّرْتِيبِ بَيْنَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ . وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ : مُشْعِرٌ بِالتَّحْرِيكِ . وَمِنْهُ : مَضْمَضَ النُّعَاسُ فِي عَيْنَيْهِ . وَاسْتُعْمِلَتْ فِي هَذِهِ السُّنَّةِ - أَعْنِي الْمَضْمَضَةَ فِي الْوُضُوءِ - لِتَحْرِيكِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ . وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : " الْمَضْمَضَةُ " أَنْ يَجْعَلَ الْمَاءَ فِي فِيهِ ثُمَّ يَمُجَّهُ - هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ - فَأَدْخَلَ الْمَجَّ فِي حَقِيقَةِ الْمَضْمَضَةِ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ ابْتَلَعَهُ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لِلسُّنَّةِ . وَهَذَا الَّذِي يَكْثُرُ فِي أَفْعَالِ الْمُتَوَضِّئِينَ [ أَعْنِي الْجَعْلَ وَالْمَجَّ ] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْأَغْلَبُ وَالْعَادَةُ ، لَا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ تَأْدِي السُّنَّةِ عَلَى مَجِّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّادِسُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ " دَلِيلٌ عَلَى التَّرْتِيبِ بَيْنَ غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ، وَتَأَخُّرِهِ عَنْهُمَا . فَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ . وَقَدْ قِيلَ فِي حِكْمَةِ تَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ، عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ الْمَفْرُوضِ : إنَّ صِفَاتِ الْمَاءِ ثَلَاثٌ أَعْنِي الْمُعْتَبَرَةَ فِي التَّطْهِيرِ - لَوْنٌ يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ ، وَطَعْمٌ يُدْرَكُ بِالذَّوْقِ وَرِيحٌ يُدْرَكُ بِالشَّمِّ ، فَقُدِّمَتْ هَاتَانِ السُّنَّتَانِ لِيَخْتَبِرَ حَالَ الْمَاءِ ، قَبْلَ أَدَاءِ الْفَرْضِ بِهِ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ رَأَى التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْمَفْرُوضَاتِ . وَلَمْ يَرَهُ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ ، كَمَا بَيْنَ الْمَفْرُوضَاتِ . وَ " الْوَجْهُ " مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُوَاجَهَةِ . وَقَدْ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الِاشْتِقَاقَ ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَحْكَامًا . وَقَوْلُهُ " ثَلَاثًا " يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ هَذَا الْعَدَدِ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ فِيهِ .
السَّابِعُ : قَوْلُهُ " وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ " الْمِرْفَقُ فِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ . وَالثَّانِي : عَكْسُهُ ، لُغَتَانِ . وَقَوْلُهُ " إلَى الْمِرْفَقَيْنِ " لَيْسَ فِيهِ إفْصَاحٌ بِكَوْنِهِ أَدْخَلَهُمَا فِي الْغَسْلِ ، أَوْ انْتَهَى إلَيْهِمَا وَالْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ إدْخَالِهِمَا فِي الْغَسْلِ . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : الْوُجُوبُ . وَخَالَفَ زُفَرُ وَغَيْرُهُ . وَمَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ : أَنَّ كَلِمَةَ " إلَى " الْمَشْهُورُ فِيهَا : أَنَّهَا لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى " مَعَ " فَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَشْهُورِهَا . فَلَمْ يُوجِبْ إدْخَالَ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى " مَعَ " فَأَوْجَبَ إدْخَالَهَا . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا أَوْ لَا . فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْجِنْسِ دَخَلَتْ ، كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَمْ تَدْخُلْ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } . وَقَالَ غَيْرُهُ : إنَّمَا دَخَلَ الْمِرْفَقَانِ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ " إلَى " هَهُنَا غَايَةٌ لِلْإِخْرَاجِ ، لَا لِلْإِدْخَالِ . فَإِنَّ اسْمَ " الْيَدِ " يَنْطَلِقُ عَلَى الْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ . فَلَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْغَايَةُ لَوَجَبَ غَسْلُ الْيَدِ إلَى الْمَنْكِبِ . فَلَمَّا دَخَلَتْ : أَخْرَجَتْ عَنْ الْغَسْلِ مَا زَادَ عَلَى الْمِرْفَقِ . فَانْتَهَى الْإِخْرَاجُ إلَى الْمِرْفَقِ ، فَدَخَلَ فِي الْغَسْلِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَمَّا تَرَدَّدَ لَفْظُ " إلَى " بَيْنَ أَنْ تَكُونَ لِلْغَايَةِ ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى " مَعَ " وَجَاءَ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ " كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُجْمَلِ . وَأَفْعَالُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ الْوَاجِبِ الْمُجْمَلِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ . وَهَذَا عِنْدَنَا ضَعِيفٌ . ؛ لِأَنَّ " إلَى " حَقِيقَةٌ فِي انْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، مَجَازٌ بِمَعْنَى " مَعَ " وَلَا إجْمَالَ فِي اللَّفْظِ بَعْدَ تَبَيُّنِ حَقِيقَتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي انْتِهَاءِ الْغَايَةِ : كَثْرَةُ نُصُوصِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا بِمَعْنَى " مَعَ " فَلَمْ يَنُصَّ عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ . فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْمَجَازَ .
الثَّامِنُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ " ظَاهِرُهُ : اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ . ؛ لِأَنَّ اسْمَ " الرَّأْسِ " حَقِيقَةٌ فِي الْعُضْوِ كُلِّهِ . وَالْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْمَسْحِ . وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ . ؛ لِأَنَّهُ فِي آخِرِهِ : إنَّمَا ذُكِرَ تَرْتِيبُ ثَوَابٍ مَخْصُوصٍ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ . وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الصِّحَّةِ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ . فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الثَّوَابُ مُرَتَّبًا عَلَى إكْمَالِ مَسْحِ الرَّأْسِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا إكْمَالُهُ ، كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، أَوْ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ . فَإِنْ سَلَكَ سَالِكٌ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمِرْفَقَيْنِ - مِنْ ادِّعَاءِ الْإِجْمَالِ فِي الْآيَةِ ، وَأَنَّ الْفِعْلَ بَيَانٌ لَهُ - فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ . ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْآيَةِ : مُبَيَّنٌ . إمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : مُطْلَقَ الْمَسْحِ ، عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْبَاءِ فِي الْآيَةِ التَّبْعِيضُ [ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ] ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : الْكُلُّ ، عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ . بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْمَ " الرَّأْسِ " حَقِيقَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَأَنَّ " الْبَاءَ " لَا تُعَارِضُ ذَلِكَ . وَكَيْفَمَا كَانَ : فَلَا إجْمَالَ .
التَّاسِعُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ " صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّوَافِضِ فِي أَنَّ وَاجِبَ الرِّجْلَيْنِ : الْمَسْحُ . وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ ، وَجَمَاعَةٍ وَصَفُوا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ أَحْسَنِ مَا جَاءَ فِيهِ : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاءِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ - إلَى أَنْ قَالَ - ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ ، كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } فَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ : انْضَمَّ الْقَوْلُ إلَى الْفِعْلِ . وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ : الْغَسْلُ فِي الرِّجْلَيْنِ .
الْعَاشِرُ : قَوْلُهُ " ثَلَاثًا " يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّكْرَارِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ ثَلَاثًا وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَى هَذَا الْعَدَدَ فِي الرِّجْلِ ، كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَعْضَاءِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا " وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا . فَاسْتُدِلَّ بِهِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ . وَأُكِّدَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى : بِأَنَّ الرِّجْلَ لِقُرْبِهَا مِنْ الْأَرْضِ فِي الْمَشْيِ عَلَيْهَا يَكْثُرُ فِيهَا الْأَوْسَاخُ وَالْأَدْرَانُ ، فَيُحَالُ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِنْقَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ . وَالرِّوَايَةُ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْعَدَدُ : زَائِدَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا فَالْأَخْذُ بِهَا مُتَعَيِّنٌ وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الْعَدَدِ . فَلْيُعْمَلْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ " مِثْلَ " .
الْحَادِيَ عَشَرَ : قَوْلُهُ " نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا " لَفْظَةُ " نَحْوَ " لَا تُطَابِقُ لَفْظَةَ " مِثْلَ " فَإِنَّ لَفْظَةَ " مِثْلَ " يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا الْمُسَاوَاةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، إلَّا فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّغَايُرَ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ ، بِحَيْثُ يُخْرِجُهُمَا عَنْ الْوَحْدَةِ . وَلَفْظَةُ " نَحْوَ " لَا تُعْطِي ذَلِكَ وَلَعَلَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى الْمِثْلِ مَجَازًا أَوْ لَعَلَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مِمَّا يَقْتَضِي الْمِثْلِيَّةَ إلَّا مَا لَا يَقْدَحُ فِي الْمَقْصُودِ . يَظْهَرُ فِي الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ : أَنَّ فِيهِ أَشْيَاءَ مُلْغَاةٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْفِعْلِ : فَإِذَا تَرَكْتَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُمَاثِلًا حَقِيقَةً لِذَلِكَ الْفِعْلِ ، وَلَمْ يَقْدَحْ تَرْكُهَا فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ . وَهُوَ رَفْعُ الْحَدَثِ ، وَتَرَتُّبُ الثَّوَابِ . وَإِنَّمَا احْتَجْنَا إلَى هَذَا وَقُلْنَا بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ذُكِرَ لِبَيَانِ فِعْلٍ يُقْتَدَى بِهِ ، وَيَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمَوْعُودُ عَلَيْهِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ الْمَحْكِيُّ الْمَفْعُولُ مُحَصِّلًا لِهَذَا الْغَرَضِ . فَلِهَذَا قُلْنَا : إمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتَعْمَلَ " نَحْوَ " فِي حَقِيقَتِهَا ، مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ ، لَا بِمَعْنَى " مِثْلَ " أَوْ يَكُونَ تَرَكَ مَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ . فَاسْتَعْمَلَ " نَحْوَ " فِي " مِثْلَ " مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَيُمْكِنُ أَنْ تُقَالَ : إنَّ الثَّوَابَ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُقَارَنَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، تَسْهِيلًا وَتَوْسِيعًا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ ، مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ وَنُقَيِّدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْبَيَانِ . الثَّانِيَ عَشَرَ : هَذَا الثَّوَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْوُضُوءُ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ . وَالثَّانِي : صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ فِي الْحَدِيثِ ، وَالْمُرَتَّبُ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ : لَا يَلْزَمُ تَرَتُّبُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ . وَقَدْ أَدْخَلَ قَوْمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي فَضْلِ الْوُضُوءِ . وَعَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ هَذَا السُّؤَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَيُجَابُ عَنْهُ : بِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ جُزْءًا مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ : كَافٍ فِي كَوْنِهِ ذَا فَضْلٍ . فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ كَوْنِ الْحَدِيثِ دَالًا عَلَى فَضِيلَةِ الْوُضُوءِ . وَيَظْهَرُ بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ حُصُولِ الثَّوَابِ الْمَخْصُوصِ ، وَحُصُولِ مُطْلَقِ الثَّوَابِ . فَالثَّوَابُ الْمَخْصُوصُ : يَتَرَتَّبُ عَلَى مَجْمُوعِ الْوُضُوءِ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ . وَالصَّلَاةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ . وَمُطْلَقُ الثَّوَابِ : قَدْ يَحْصُلُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : قَوْلُهُ " وَلَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ " إشَارَةٌ إلَى الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ الْوَارِدَةِ عَلَى النَّفْسِ . وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَا يَهْجُمُ هَجْمًا يَتَعَذَّرُ دَفْعُهُ عَنْ النَّفْسِ . وَالثَّانِي : مَا تَسْتَرْسِلُ مَعَهُ النَّفْسُ ، وَيُمْكِنُ قَطْعُهُ وَدَفْعُهُ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الثَّانِي . فَيَخْرُجُ عَنْهُ النَّوْعُ الْأَوَّلُ ، لِعُسْرِ اعْتِبَارِهِ . وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ : لَفْظَةُ " يُحَدِّثُ نَفْسَهُ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَكَسُّبًا مِنْهُ ، وَتَفَعُّلًا لِهَذَا الْحَدِيثِ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّوْعَيْنِ مَعًا ، إلَّا أَنَّ الْعُسْرَ إنَّمَا يَجِبُ دَفْعُهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ . وَالْحَدِيثُ إنَّمَا يَقْتَضِي تَرَتُّبَ ثَوَابٍ مَخْصُوصٍ عَلَى عَمَلٍ مَخْصُوصٍ . فَمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْعَمَلُ : حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ ، وَمَنْ لَا ، فَلَا . وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّكَالِيفِ ، حَتَّى يَلْزَمَ رَفْعُ الْعُسْرِ عَنْهُ . نَعَمْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحَالَةُ مُمْكِنَةَ الْحُصُولِ - أَعْنِي الْوَصْفَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ الْمَخْصُوصُ - وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنَّ الْمُتَجَرِّدِينَ عَنْ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا ، الَّذِينَ غَلَبَ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَغَمَرَهَا : تَحْصُلُ لَهُمْ تِلْكَ الْحَالَةُ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ .
الرَّابِعَ عَشَرَ " حَدِيثُ النَّفْسِ " يَعُمُّ الْخَوَاطِرَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدُّنْيَا ، وَالْخَوَاطِرَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْآخِرَةِ . وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا . إذْ لَا بُدَّ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ ، كَالْفِكْرِ فِي مَعَانِي الْمَتْلُوِّ مِنْ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ ، وَالْمَذْكُورِ مِنْ الدَّعَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ . وَلَا نُرِيدُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ : كُلَّ أَمْرٍ مَحْمُودٍ ، أَوْ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ . وَإِدْخَالُهُ فِيهَا أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " إنِّي لَأُجَهِّزُ الْجَيْشَ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ " أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذِهِ قُرْبَةٌ ، إلَّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ
" عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، يَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبْدِ مَنَافٍ . أَسْلَمَ قَدِيمًا . وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ . وَتَزَوَّجَ بِنْتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، لِثَمَانِي عَشَرَةَ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ . وَمَوْلَاهُ " حُمْرَانُ بْنُ أَبَانَ بْنِ خَالِدٍ كَانَ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ . ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى الْبَصْرَةِ . احْتَجَّ بِهِ الْجَمَاعَةُ . وَكَانَ كَبِيرًا . الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : " الْوَضُوءُ " بِفَتْحِ الْوَاوِ : اسْمٌ لِلْمَاءِ ، وَبِضَمِّهَا : اسْمٌ لِلْفِعْلِ عَلَى الْأَكْثَرِ . وَإِذَا كَانَ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمًا لِلْمَاءِ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - فَهَلْ هُوَ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْمَاءِ ، أَوْ لِلْمَاءِ بِقَيْدِ كَوْنِهِ مُتَوَضِّئًا بِهِ ، أَوْ مُعَدًّا لِلْوُضُوءِ بِهِ ؟ فِيهِ نَظَرٌ يَحْتَاجُ إلَى كَشْفٍ . وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ . وَهُوَ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اُسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ : قَوْلُ جَابِرٍ " فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ " فَإِنَّا إنْ جَعَلْنَا " الْوَضُوءِ " اسْمًا لِمُطْلَقِ الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ " فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ " دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ . ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ : فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ مَائِهِ . وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَاؤُهُ هُوَ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِي أَعْضَائِهِ . ؛ لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ عَلَى أَنَّ " الْوَضُوءَ " اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْمَاءِ . وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ : جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِوَضُوئِهِ : فَضْلَةَ مَائِهِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِبَعْضِهِ ، لَا مَا اسْتَعْمَلَهُ فِي أَعْضَائِهِ . فَلَا يَبْقَى فِيهِ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ . وَإِنْ جَعَلْنَا " الْوَضُوءَ " بِالْفَتْحِ : الْمَاءَ مُقَيَّدًا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوُضُوءِ - بِالضَّمِّ " أَعْنِي اسْتِعْمَالَهُ فِي الْأَعْضَاءِ ، أَوْ إعْدَادَهُ لِذَلِكَ : فَهَاهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : فِيهِ دَلِيلٌ . ؛ لِأَنَّ " وَضُوءَهُ " بِالْفَتْحِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَائِهِ الْمُعَدِّ لِلْوُضُوءِ بِالضَّمِّ ، وَبَيْنَ مَائِهِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْوَضُوءِ . وَحَمْلُهُ عَلَى الثَّانِي أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ ، أَوْ الْأَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنَى الْمُعَدِّ مَجَازٌ . وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الْأَقْرَبِ إلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى .
الثَّانِي : قَوْلُهُ " فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ " فِيهِ اسْتِحْبَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا . وَالْحَدِيثُ الَّذِي مَضَى يُفِيدُ اسْتِحْبَابَهُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ ، وَأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ عَدَمِ الْقِيَامِ : الِاسْتِحْبَابُ ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ : الْكَرَاهِيَةُ لِإِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا الثَّالِثُ : قَوْلُهُ " عَلَى يَدَيْهِ " يُؤْخَذُ مِنْهُ : الْإِفْرَاغُ عَلَيْهِمَا مَعًا . وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " أَنَّهُ أَفْرَغَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، ثُمَّ غَسَلَهُمَا " . قَوْلُهُ : " غَسَلَهُمَا " قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كَوْنِهِ غَسَلَهُمَا مَجْمُوعَتَيْنِ ، أَوْ مُفْتَرِقَتَيْنِ . وَالْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ . الرَّابِعُ : قَوْلُهُ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " مُبَيِّنٌ لِمَا أُهْمِلَ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِي حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ " إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ " رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا : ذِكْرُ الْعَدَدِ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ .
الْخَامِسُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ تَمَضْمَضَ " مُقْتَضٍ لِلتَّرْتِيبِ بَيْنَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ . وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ : مُشْعِرٌ بِالتَّحْرِيكِ . وَمِنْهُ : مَضْمَضَ النُّعَاسُ فِي عَيْنَيْهِ . وَاسْتُعْمِلَتْ فِي هَذِهِ السُّنَّةِ - أَعْنِي الْمَضْمَضَةَ فِي الْوُضُوءِ - لِتَحْرِيكِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ . وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : " الْمَضْمَضَةُ " أَنْ يَجْعَلَ الْمَاءَ فِي فِيهِ ثُمَّ يَمُجَّهُ - هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ - فَأَدْخَلَ الْمَجَّ فِي حَقِيقَةِ الْمَضْمَضَةِ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ ابْتَلَعَهُ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لِلسُّنَّةِ . وَهَذَا الَّذِي يَكْثُرُ فِي أَفْعَالِ الْمُتَوَضِّئِينَ [ أَعْنِي الْجَعْلَ وَالْمَجَّ ] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْأَغْلَبُ وَالْعَادَةُ ، لَا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ تَأْدِي السُّنَّةِ عَلَى مَجِّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّادِسُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ " دَلِيلٌ عَلَى التَّرْتِيبِ بَيْنَ غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ، وَتَأَخُّرِهِ عَنْهُمَا . فَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ . وَقَدْ قِيلَ فِي حِكْمَةِ تَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ، عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ الْمَفْرُوضِ : إنَّ صِفَاتِ الْمَاءِ ثَلَاثٌ أَعْنِي الْمُعْتَبَرَةَ فِي التَّطْهِيرِ - لَوْنٌ يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ ، وَطَعْمٌ يُدْرَكُ بِالذَّوْقِ وَرِيحٌ يُدْرَكُ بِالشَّمِّ ، فَقُدِّمَتْ هَاتَانِ السُّنَّتَانِ لِيَخْتَبِرَ حَالَ الْمَاءِ ، قَبْلَ أَدَاءِ الْفَرْضِ بِهِ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ رَأَى التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْمَفْرُوضَاتِ . وَلَمْ يَرَهُ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ ، كَمَا بَيْنَ الْمَفْرُوضَاتِ . وَ " الْوَجْهُ " مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُوَاجَهَةِ . وَقَدْ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الِاشْتِقَاقَ ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَحْكَامًا . وَقَوْلُهُ " ثَلَاثًا " يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ هَذَا الْعَدَدِ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ فِيهِ .
السَّابِعُ : قَوْلُهُ " وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ " الْمِرْفَقُ فِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ . وَالثَّانِي : عَكْسُهُ ، لُغَتَانِ . وَقَوْلُهُ " إلَى الْمِرْفَقَيْنِ " لَيْسَ فِيهِ إفْصَاحٌ بِكَوْنِهِ أَدْخَلَهُمَا فِي الْغَسْلِ ، أَوْ انْتَهَى إلَيْهِمَا وَالْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ إدْخَالِهِمَا فِي الْغَسْلِ . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : الْوُجُوبُ . وَخَالَفَ زُفَرُ وَغَيْرُهُ . وَمَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ : أَنَّ كَلِمَةَ " إلَى " الْمَشْهُورُ فِيهَا : أَنَّهَا لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى " مَعَ " فَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَشْهُورِهَا . فَلَمْ يُوجِبْ إدْخَالَ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى " مَعَ " فَأَوْجَبَ إدْخَالَهَا . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا أَوْ لَا . فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْجِنْسِ دَخَلَتْ ، كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَمْ تَدْخُلْ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } . وَقَالَ غَيْرُهُ : إنَّمَا دَخَلَ الْمِرْفَقَانِ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ " إلَى " هَهُنَا غَايَةٌ لِلْإِخْرَاجِ ، لَا لِلْإِدْخَالِ . فَإِنَّ اسْمَ " الْيَدِ " يَنْطَلِقُ عَلَى الْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ . فَلَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْغَايَةُ لَوَجَبَ غَسْلُ الْيَدِ إلَى الْمَنْكِبِ . فَلَمَّا دَخَلَتْ : أَخْرَجَتْ عَنْ الْغَسْلِ مَا زَادَ عَلَى الْمِرْفَقِ . فَانْتَهَى الْإِخْرَاجُ إلَى الْمِرْفَقِ ، فَدَخَلَ فِي الْغَسْلِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَمَّا تَرَدَّدَ لَفْظُ " إلَى " بَيْنَ أَنْ تَكُونَ لِلْغَايَةِ ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى " مَعَ " وَجَاءَ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ " كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُجْمَلِ . وَأَفْعَالُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ الْوَاجِبِ الْمُجْمَلِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ . وَهَذَا عِنْدَنَا ضَعِيفٌ . ؛ لِأَنَّ " إلَى " حَقِيقَةٌ فِي انْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، مَجَازٌ بِمَعْنَى " مَعَ " وَلَا إجْمَالَ فِي اللَّفْظِ بَعْدَ تَبَيُّنِ حَقِيقَتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي انْتِهَاءِ الْغَايَةِ : كَثْرَةُ نُصُوصِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا بِمَعْنَى " مَعَ " فَلَمْ يَنُصَّ عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ . فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْمَجَازَ .
الثَّامِنُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ " ظَاهِرُهُ : اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ . ؛ لِأَنَّ اسْمَ " الرَّأْسِ " حَقِيقَةٌ فِي الْعُضْوِ كُلِّهِ . وَالْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْمَسْحِ . وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ . ؛ لِأَنَّهُ فِي آخِرِهِ : إنَّمَا ذُكِرَ تَرْتِيبُ ثَوَابٍ مَخْصُوصٍ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ . وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الصِّحَّةِ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ . فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الثَّوَابُ مُرَتَّبًا عَلَى إكْمَالِ مَسْحِ الرَّأْسِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا إكْمَالُهُ ، كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، أَوْ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ . فَإِنْ سَلَكَ سَالِكٌ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمِرْفَقَيْنِ - مِنْ ادِّعَاءِ الْإِجْمَالِ فِي الْآيَةِ ، وَأَنَّ الْفِعْلَ بَيَانٌ لَهُ - فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ . ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْآيَةِ : مُبَيَّنٌ . إمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : مُطْلَقَ الْمَسْحِ ، عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْبَاءِ فِي الْآيَةِ التَّبْعِيضُ [ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ] ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : الْكُلُّ ، عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ . بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْمَ " الرَّأْسِ " حَقِيقَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَأَنَّ " الْبَاءَ " لَا تُعَارِضُ ذَلِكَ . وَكَيْفَمَا كَانَ : فَلَا إجْمَالَ .
التَّاسِعُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ " صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّوَافِضِ فِي أَنَّ وَاجِبَ الرِّجْلَيْنِ : الْمَسْحُ . وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ ، وَجَمَاعَةٍ وَصَفُوا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ أَحْسَنِ مَا جَاءَ فِيهِ : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاءِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ - إلَى أَنْ قَالَ - ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ ، كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } فَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ : انْضَمَّ الْقَوْلُ إلَى الْفِعْلِ . وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ : الْغَسْلُ فِي الرِّجْلَيْنِ .
الْعَاشِرُ : قَوْلُهُ " ثَلَاثًا " يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّكْرَارِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ ثَلَاثًا وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَى هَذَا الْعَدَدَ فِي الرِّجْلِ ، كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَعْضَاءِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا " وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا . فَاسْتُدِلَّ بِهِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ . وَأُكِّدَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى : بِأَنَّ الرِّجْلَ لِقُرْبِهَا مِنْ الْأَرْضِ فِي الْمَشْيِ عَلَيْهَا يَكْثُرُ فِيهَا الْأَوْسَاخُ وَالْأَدْرَانُ ، فَيُحَالُ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِنْقَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ . وَالرِّوَايَةُ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْعَدَدُ : زَائِدَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا فَالْأَخْذُ بِهَا مُتَعَيِّنٌ وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الْعَدَدِ . فَلْيُعْمَلْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ " مِثْلَ " .
الْحَادِيَ عَشَرَ : قَوْلُهُ " نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا " لَفْظَةُ " نَحْوَ " لَا تُطَابِقُ لَفْظَةَ " مِثْلَ " فَإِنَّ لَفْظَةَ " مِثْلَ " يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا الْمُسَاوَاةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، إلَّا فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّغَايُرَ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ ، بِحَيْثُ يُخْرِجُهُمَا عَنْ الْوَحْدَةِ . وَلَفْظَةُ " نَحْوَ " لَا تُعْطِي ذَلِكَ وَلَعَلَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى الْمِثْلِ مَجَازًا أَوْ لَعَلَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مِمَّا يَقْتَضِي الْمِثْلِيَّةَ إلَّا مَا لَا يَقْدَحُ فِي الْمَقْصُودِ . يَظْهَرُ فِي الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ : أَنَّ فِيهِ أَشْيَاءَ مُلْغَاةٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْفِعْلِ : فَإِذَا تَرَكْتَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُمَاثِلًا حَقِيقَةً لِذَلِكَ الْفِعْلِ ، وَلَمْ يَقْدَحْ تَرْكُهَا فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ . وَهُوَ رَفْعُ الْحَدَثِ ، وَتَرَتُّبُ الثَّوَابِ . وَإِنَّمَا احْتَجْنَا إلَى هَذَا وَقُلْنَا بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ذُكِرَ لِبَيَانِ فِعْلٍ يُقْتَدَى بِهِ ، وَيَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمَوْعُودُ عَلَيْهِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ الْمَحْكِيُّ الْمَفْعُولُ مُحَصِّلًا لِهَذَا الْغَرَضِ . فَلِهَذَا قُلْنَا : إمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتَعْمَلَ " نَحْوَ " فِي حَقِيقَتِهَا ، مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ ، لَا بِمَعْنَى " مِثْلَ " أَوْ يَكُونَ تَرَكَ مَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ . فَاسْتَعْمَلَ " نَحْوَ " فِي " مِثْلَ " مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَيُمْكِنُ أَنْ تُقَالَ : إنَّ الثَّوَابَ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُقَارَنَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، تَسْهِيلًا وَتَوْسِيعًا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ ، مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ وَنُقَيِّدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْبَيَانِ . الثَّانِيَ عَشَرَ : هَذَا الثَّوَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْوُضُوءُ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ . وَالثَّانِي : صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ فِي الْحَدِيثِ ، وَالْمُرَتَّبُ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ : لَا يَلْزَمُ تَرَتُّبُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ . وَقَدْ أَدْخَلَ قَوْمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي فَضْلِ الْوُضُوءِ . وَعَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ هَذَا السُّؤَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَيُجَابُ عَنْهُ : بِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ جُزْءًا مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ : كَافٍ فِي كَوْنِهِ ذَا فَضْلٍ . فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ كَوْنِ الْحَدِيثِ دَالًا عَلَى فَضِيلَةِ الْوُضُوءِ . وَيَظْهَرُ بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ حُصُولِ الثَّوَابِ الْمَخْصُوصِ ، وَحُصُولِ مُطْلَقِ الثَّوَابِ . فَالثَّوَابُ الْمَخْصُوصُ : يَتَرَتَّبُ عَلَى مَجْمُوعِ الْوُضُوءِ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ . وَالصَّلَاةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ . وَمُطْلَقُ الثَّوَابِ : قَدْ يَحْصُلُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : قَوْلُهُ " وَلَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ " إشَارَةٌ إلَى الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ الْوَارِدَةِ عَلَى النَّفْسِ . وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَا يَهْجُمُ هَجْمًا يَتَعَذَّرُ دَفْعُهُ عَنْ النَّفْسِ . وَالثَّانِي : مَا تَسْتَرْسِلُ مَعَهُ النَّفْسُ ، وَيُمْكِنُ قَطْعُهُ وَدَفْعُهُ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الثَّانِي . فَيَخْرُجُ عَنْهُ النَّوْعُ الْأَوَّلُ ، لِعُسْرِ اعْتِبَارِهِ . وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ : لَفْظَةُ " يُحَدِّثُ نَفْسَهُ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَكَسُّبًا مِنْهُ ، وَتَفَعُّلًا لِهَذَا الْحَدِيثِ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّوْعَيْنِ مَعًا ، إلَّا أَنَّ الْعُسْرَ إنَّمَا يَجِبُ دَفْعُهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ . وَالْحَدِيثُ إنَّمَا يَقْتَضِي تَرَتُّبَ ثَوَابٍ مَخْصُوصٍ عَلَى عَمَلٍ مَخْصُوصٍ . فَمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْعَمَلُ : حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ ، وَمَنْ لَا ، فَلَا . وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّكَالِيفِ ، حَتَّى يَلْزَمَ رَفْعُ الْعُسْرِ عَنْهُ . نَعَمْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحَالَةُ مُمْكِنَةَ الْحُصُولِ - أَعْنِي الْوَصْفَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ الْمَخْصُوصُ - وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنَّ الْمُتَجَرِّدِينَ عَنْ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا ، الَّذِينَ غَلَبَ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَغَمَرَهَا : تَحْصُلُ لَهُمْ تِلْكَ الْحَالَةُ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ .
الرَّابِعَ عَشَرَ " حَدِيثُ النَّفْسِ " يَعُمُّ الْخَوَاطِرَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدُّنْيَا ، وَالْخَوَاطِرَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْآخِرَةِ . وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا . إذْ لَا بُدَّ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ ، كَالْفِكْرِ فِي مَعَانِي الْمَتْلُوِّ مِنْ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ ، وَالْمَذْكُورِ مِنْ الدَّعَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ . وَلَا نُرِيدُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ : كُلَّ أَمْرٍ مَحْمُودٍ ، أَوْ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ . وَإِدْخَالُهُ فِيهَا أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " إنِّي لَأُجَهِّزُ الْجَيْشَ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ " أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذِهِ قُرْبَةٌ ، إلَّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ