5 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ } وَلِمُسْلِمٍ { لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ } .
الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : " الْمَاءُ الدَّائِمُ " هُوَ الرَّاكِدُ . وَقَوْلُهُ " الَّذِي لَا يَجْرِي " تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الدَّائِمِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ ؛ فَإِنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ عُمُومٍ . وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : يَخُصُّونَ هَذَا الْعُمُومَ ، وَيَحْمِلُونَ النَّهْيَ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ . وَيَقُولُونَ بِعَدَمِ تَنْجِيسِ الْقُلَّتَيْنِ - فَمَا زَادَ - إلَّا بِالتَّغَيُّرِ : مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ . فَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ الْعَامُّ فِي النَّهْيِ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ . فَإِنَّ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ يَقْتَضِي عَدَمَ تَنْجِيسِ الْقُلَّتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا . وَذَلِكَ أَخَصُّ مِنْ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْعَامِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ . وَلِأَحْمَدَ طَرِيقَةٌ أُخْرَى : وَهِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ بَوْلِ الْآدَمِيِّ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، مِنْ عَذِرَتِهِ الْمَائِعَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ . فَأَمَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ : فَيُنَجِّسُ الْمَاءَ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ . وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ : فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُلَّتَانِ ، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْخَبَثَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَنْجَاسِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَوْلِ الْآدَمِيِّ . فَيُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ ، بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّجَاسَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ . وَيَخْرُجُ بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ جُمْلَةِ النَّجَاسَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُلَّتَيْنِ بِخُصُوصِهِ . فَيُنَجِّسُ الْمَاءَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ . وَيَلْحَقُ بِالْبَوْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ : مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِالتَّخْصِيصِ أَوْ التَّقْيِيدِ . ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَبْحِرَ الْكَثِيرَ جِدًّا : لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ . وَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا غَيَّرَتْهُ النَّجَاسَةُ : امْتَنَعَ اسْتِعْمَالُهُ . فَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ - لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ - لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ صُورَةُ التَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ ، أَعْنِي عَنْ الْحُكْمِ بِالْكَرَاهِيَةِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ ثَمَّ : التَّحْرِيمُ ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْكُلِّ . فَلِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَقُولُوا : خَرَجَ عَنْهُ الْمُسْتَبْحِرُ الْكَثِيرُ جِدًّا بِالْإِجْمَاعِ ، فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا زَادَ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ . وَيَقُولُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : خَرَجَ الْكَثِيرُ الْمُسْتَبْحِرُ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ . وَخَرَجَ الْقُلَّتَانِ فَمَا زَادَ ، بِمُقْتَضَى حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ ، فَيَبْقَى مَا نَقَصَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ دَاخِلًا تَحْتَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ . وَيَقُولُ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ الْمَذْكُورِ : خَرَجَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ ، وَبَقِيَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ ، إلَّا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ ، مُقْتَضَى حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ فِيهِ عَامٌّ فِي الْأَنْجَاسِ ، فَيُخَصُّ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّ . وَلِمُخَالِفِهِمْ أَنْ يَقُولَ : قَدْ عَلِمْنَا جَزْمًا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى فِي النَّجَاسَةِ ، وَعَدَمِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ بِمَا خَالَطَهَا . وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ سَائِرُ الْأَنْجَاسِ ، وَلَا يَتَّجِهُ تَخْصِيصُ بَوْلِ الْآدَمِيِّ مِنْهَا ، بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ، فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ لِهَذَا الْمَعْنَى - أَعْنِي التَّنَزُّهَ عَنْ الْأَقْذَارِ - أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ أَشَدُّ اسْتِقْذَارًا أَوْقَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَنْسَبَ لَهُ ، وَلَيْسَ بَوْلُ الْآدَمِيِّ بِأَقْذَرَ مِنْ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ ، بَلْ قَدْ يُسَاوِيهِ غَيْرُهُ ، أَوْ يَرْجَحُ عَلَيْهِ فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهِ دُونَ غَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْعِ مَعْنًى . فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْبَوْلِ وَرَدَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ ، مِمَّا يُشَارِكُهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ . وَالْوُقُوفُ عَلَى مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ هَهُنَا - مَعَ وُضُوحِ الْمَعْنَى ، وَشُمُولِهِ لِسَائِرِ الْأَنْجَاسِ - ظَاهِرِيَّةٌ مَحْضَةٌ . وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِذَا حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ يَسْتَمِرُّ حُكْمُ الْحَدِيثِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، غَيْرِ الْمُسْتَثْنَى بِالِاتِّفَاقِ [ وَهُوَ الْمُسْتَبْحِرُ ] مَعَ حُصُولِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ الِاغْتِسَالِ بَعْدَ تَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ . فَهَذَا يَلْتَفِتُ إلَى حَمْلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ إلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ . فَإِنْ جَعَلْنَا النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ : كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ . وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَنْعِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا : إنَّ حَالَةَ التَّغَيُّرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ . فَلَا يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ . وَهَذَا مُتَّجِهٌ ، إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّخْصِيصُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . وَالْمُخَصِّصُ : الْإِجْمَاعُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمُتَغَيِّرِ ] . الْوَجْهُ الثَّانِي : اعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاغْتِسَالِ لَا يَخُصُّ الْغُسْلَ ، بَلْ التَّوَضُّؤُ فِي مَعْنَاهُ . وَقَدْ وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ } وَلَوْ لَمْ يَرِدْ لَكَانَ مَعْلُومًا قَطْعًا ، لِاسْتِوَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، لِفَهْمِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ : التَّنَزُّهُ عَنْ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْمُسْتَقْذِرَاتِ . الثَّالِثُ : وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ " وَفِي بَعْضِهَا " ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ " وَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ ، يُفِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا بِطَرِيقِ النَّصِّ وَآخَرَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ لَفْظَةُ " فِيهِ " لَاسْتَوَيَا ، لِمَا ذَكَرْنَا . الرَّابِعُ : مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ قَطْعًا : مَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ الْجَامِدَةُ : مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ مَخْصُوصٌ بِالْبَوْلِ فِي الْمَاءِ حَتَّى لَوْ بَالَ فِي كُوزٍ وَصَبَّهُ فِي الْمَاءِ : لَمْ يَضُرَّ عِنْدَهُمْ . أَوْ لَوْ بَالَ خَارِجَ الْمَاءِ فَجَرَى الْبَوْلُ إلَى الْمَاءِ : لَمْ يَضُرَّ عِنْدَهُمْ أَيْضًا . وَالْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ حَاصِلٌ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ . لِاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْحُصُولِ فِي الْمَاءِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ : اجْتِنَابُ مَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِنْ الْمَاءِ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَجَالِ الظُّنُونِ ، بَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ . وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ } فَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُسْتَعْمَلِ وَأَنَّ الِاغْتِسَالَ فِي الْمَاءِ يُفْسِدُهُ . ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ وَارِدٌ هَهُنَا عَلَى مُجَرَّدِ الْغُسْلِ . فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ بِمُجَرَّدِهِ . وَهِيَ خُرُوجُهُ عَنْ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلتَّطْهِيرِ بِهِ : إمَّا لِنَجَاسَتِهِ ، أَوْ لِعَدَمِ طَهُورِيَّتِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّخْصِيصِ . فَإِنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ - إمَّا الْقُلَّتَانِ فَمَا زَادَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَوْ الْمُسْتَبْحِرُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ . وَمَالِكٌ لِمَا رَأَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَهُورٌ ، غَيْرَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ : يَحْمِلُ هَذَا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ . وَقَدْ يُرَجِّحُهُ : أَنَّ وُجُوهَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لَا تَخْتَصُّ بِالتَّطْهِيرِ . وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي النَّهْيِ . فَإِذَا حُمِلَ عَلَى التَّحْرِيمِ لِمَفْسَدَةِ خُرُوجِ الْمَاءِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ : لَمْ يُنَاسَبْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَصَالِحِ الْمَاءِ تَبْقَى بَعْدَ كَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ الطَّهُورِيَّةِ ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ : كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ عَامَّةً ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَقْذَرُ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فِيهِ . وَذَلِكَ ضَرَرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ فِي طَهَارَةٍ أَوْ شُرْبٍ ، فَيَسْتَمِرُّ النَّهْيُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَقَّعَةِ ، إلَّا أَنَّ فِيهِ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ ، أَعْنِي حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ . فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ .
6 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا } وَلِمُسْلِمٍ { أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ } .
فِيهِ مَسَائِلُ . الْأُولَى : الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ ظَاهِرٌ فِي تَنْجِيسِ الْإِنَاءِ . وَأَقْوَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ : الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ . وَهِيَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ ، إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ : أَنْ يُغْسَلَ سَبْعًا } فَإِنَّ لَفْظَةَ " طُهُورُ " تُسْتَعْمَلُ إمَّا عَنْ الْحَدَثِ ، أَوْ عَنْ الْخَبَثِ . وَلَا حَدَثَ عَلَى الْإِنَاءِ بِالضَّرُورَةِ . فَتَعَيَّنَ الْخَبَثُ . وَحَمَلَ مَالِكٌ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى التَّعَبُّدِ ، لِاعْتِقَادِهِ طَهَارَةَ الْمَاءِ وَالْإِنَاءِ . وَرُبَّمَا رَجَّحَهُ أَصْحَابُهُ بِذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ ، وَهُوَ السَّبْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّجَاسَةِ : لَاكْتَفَى بِمَا دُونَ السَّبْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَغْلَظَ مِنْ نَجَاسَةِ الْعَذِرَةِ . وَقَدْ اكْتَفَى فِيهَا بِمَا دُونَ السَّبْعِ . وَالْحَمْلُ عَلَى التَّنْجِيسِ أَوْلَى . ؛ لِأَنَّهُ مَتَى دَارَ الْحُكْمُ بَيْنَ كَوْنِهِ تَعَبُّدًا ، أَوْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى ، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى كَوْنِهِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى أَوْلَى . لِنُدْرَةِ التَّعَبُّدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى . وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَكُونُ أَغْلَظَ مِنْ نَجَاسَةِ الْعَذِرَةِ ، فَمَمْنُوعٌ عِنْدَ الْقَائِلِ بِنَجَاسَتِهِ ، نَعَمْ لَيْسَ بِأَقْذَرَ مِنْ الْعَذِرَةِ ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَقَّفُ التَّغْلِيظُ عَلَى زِيَادَةِ الِاسْتِقْذَارِ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمَعْنَى مَعْقُولًا قُلْنَا بِهِ . وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّفَاصِيلِ مَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ فِي التَّفْصِيلِ ، لَمْ يَنْقُصْ لِأَجْلِهِ التَّأْصِيلُ . وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ ، فَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ زِيَادَةُ التَّغْلِيظِ فِي النَّجَاسَةِ لَكُنَّا نَقْتَصِرُ فِي التَّعَبُّدِ عَلَى الْعَدَدِ ، وَنَمْشِي فِي أَصْلِ الْمَعْنَى عَلَى مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ لِلنَّجَاسَةِ : فَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْكَلْبِ . وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ نَجَاسَةُ فَمِهِ مِنْ نَجَاسَةِ لُعَابِهِ ، فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ فَمِهِ ، وَفَمُهُ أَشْرَفُ مَا فِيهِ . فَبَقِيَّةُ بَدَنِهِ أَوْلَى . الثَّانِي : إذَا كَانَ لُعَابُهُ نَجِسًا - وَهُوَ عَرَقُ فَمِهِ - فَفَمُهُ نَجِسٌ . وَالْعَرَقُ جُزْءٌ مُتَحَلَّبٌ مِنْ الْبَدَنِ . فَجَمِيعُ عَرَقِهِ نَجِسٌ . فَجَمِيعُ بَدَنِهِ نَجِسٌ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْعَرَقَ جُزْءٌ مِنْ الْبَدَنِ . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا : أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى النَّجَاسَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ ، وَأَنَّ نَجَاسَةَ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ . وَفِيهِ بَحْثٌ . وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ الْوُلُوغُ . وَذَلِكَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ نَجَاسَةِ عَيْنِ اللُّعَابِ وَعَيْنِ الْفَمِ ، أَوْ تَنَجُّسِهِمَا بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ غَالِبًا . وَالدَّالُ عَلَى الْمُشْتَرَكِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْخَاصَّيْنِ . فَلَا يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْفَمِ ، أَوْ عَيْنِ اللُّعَابِ . فَلَا تَسْتَقِيمُ الدَّلَالَةُ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْكَلْبِ كُلِّهِ . وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ تَنْجِيسَ الْفَمِ أَوْ اللُّعَابِ - كَمَا أَشَرْتُمْ إلَيْهِ - لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ . وَهُوَ إمَّا وُقُوعُ التَّخْصِيصِ فِي الْعُمُومِ ، أَوْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ عِلَّتِهِ لِأَنَّا إذَا فَرَضْنَا تَطْهِيرَ فَمِ الْكَلْبِ بِمَاءٍ كَثِيرٍ ، أَوْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ ، فَوَلَغَ فِي الْإِنَاءِ : فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ وُجُوبُ غَسْلِهِ أَوْ لَا . فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَجَبَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ . وَإِنْ ثَبَتَ لَزِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ عِلَّتِهِ . وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ . وَاَلَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِهِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ، أَنْ يُقَالَ : الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِالْغَالِبِ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الصُّوَرِ نَادِرٌ ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ . وَهَذَا الْبَحْثُ إذَا انْتَهَى إلَى هُنَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْغَسْلَ لِأَجْلِ قَذَارَةِ الْكَلْبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي اعْتِبَارِ السَّبْعِ فِي عَدَدِ الْغَسَلَاتِ . وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، فِي قَوْلِهِ : يَغْسِلُ ثَلَاثًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ زِيَادَةُ " التُّرَابِ " وَقَالَ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ . وَلَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ هَذِهِ الزِّيَادَةُ : فَلَمْ يَقُلْ بِهَا . وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ . وَقَالَ بِهَا غَيْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي غَسْلَةِ التَّتْرِيبِ ، فَفِي بَعْضِهَا " أُولَاهُنَّ " وَفِي بَعْضِهَا " أُخْرَاهُنَّ " وَفِي بَعْضِهَا " إحْدَاهُنَّ " وَالْمَقْصُودُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ : حُصُولُ التَّتْرِيبِ فِي مَرَّةٍ مِنْ الْمَرَّاتِ ، وَقَدْ يُرَجَّحُ كَوْنُهُ فِي الْأُولَى : بِأَنَّهُ إذَا تَرَّبَ أَوَّلًا ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَلْحَقَ بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الطَّاهِرَةِ رَشَاشُ بَعْضِ الْغَسَلَاتِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَتْرِيبِهِ ، وَإِذَا أُخِّرَتْ غَسْلَةُ التَّتْرِيبِ ، فَلَحِقَ رَشَاشُ مَا قَبْلَهَا بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الطَّاهِرَةِ : اُحْتِيجَ إلَى تَتْرِيبِهِ ، فَكَانَتْ الْأُولَى أَرْفَقَ بِالْمُكَلَّفِ . فَكَانَتْ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا { وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ } تَقْتَضِي زِيَادَةَ مَرَّةٍ ثَامِنَةٍ ظَاهِرًا ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَقِيلَ : لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُهُ ، وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَالْحَدِيثُ قَوِيٌّ فِيهِ ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ : احْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِهِ بِوَجْهٍ فِيهِ اسْتِكْرَاهٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا ، أُولَاهُنَّ ، أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } قَدْ يَدُلُّ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِذَرِّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحِلِّ ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْمَاءِ ، وَيُوَصِّلَهُ إلَى الْمَحِلِّ . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ : أَنَّهُ جَعَلَ مَرَّةَ التَّتْرِيبِ دَاخِلَةً فِي قِسْمِ مُسَمَّى الْغَسَلَاتِ ، وَذَرُّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحِلِّ لَا يُسَمَّى غَسْلًا ، وَهَذَا مُمْكِنٌ . وَفِيهِ احْتِمَالٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَرَّ التُّرَابَ عَلَى الْمَحِلِّ ، وَأَتْبَعَهُ بِالْمَاءِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : غَسَلَ بِالتُّرَابِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالطَّاهِرِ غَيْرُ طَهُورٍ ، إنْ جَرَى عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهَا تُحَصِّلُ مُسَمَّى الْغَسْلِ [ وَهَذَا جَيِّدٌ ] . إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ " وَعَفِّرُوهُ " قَدْ يُشْعِرُ بِالِاكْتِفَاءِ بِالتَّتْرِيبِ بِطَرِيقِ ذَرِّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحِلِّ ، فَإِنْ كَانَ خَلْطُهُ بِالْمَاءِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ تَعْفِيرًا لُغَةً ، فَقَدْ ثَبَتَ مَا قَالُوهُ ، وَلَكِنْ لَفْظَةُ " التَّعْفِيرِ " حِينَئِذٍ تَنْطَلِقُ عَلَى ذَرِّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحِلِّ ، وَعَلَى إيصَالِهِ بِالْمَاءِ إلَيْهِ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ مُسَمَّى الْغَسْلَةِ ، إذْ دَلَّ عَلَى خَلْطِهِ بِالْمَاءِ وَإِيصَالِهِ إلَى الْمَحِلِّ بِهِ . فَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ التَّعْفِيرِ ، عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ شُمُولِ اسْمِ " التَّعْفِيرِ " لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا ، أَعْنِي ذَرَّ التُّرَابِ وَإِيصَالَهُ بِالْمَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : الْحَدِيثُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكِلَابِ . وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ : قَوْلٌ بِتَخْصِيصِهِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ . وَالْأَقْرَبُ : الْعُمُومُ . ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامِ إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى صَرْفِهَا إلَى الْمَعْهُودِ الْمُعَيَّنِ ، فَالظَّاهِرُ كَوْنُهَا لِلْعُمُومِ ، وَمَنْ يَرَى الْخُصُوصَ قَدْ يَأْخُذُهُ مِنْ قَرِينَةٍ تَصْرِفُ الْعُمُومَ عَنْ ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُمْ نُهُوا عَنْ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ إلَّا لِوُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ . وَالْأَمْرُ بِالْغَسْلِ مَعَ الْمُخَالَطَةِ عُقُوبَةٌ يُنَاسِبُهَا الِاخْتِصَاصُ بِمِنْ ارْتَكَبَ النَّهْيَ فِي اتِّخَاذِ مَا مُنِعَ مِنْ اتِّخَاذِهِ . وَأَمَّا مَنْ اتَّخَذَ مَا أُبِيحَ لَهُ اتِّخَاذُهُ ، فَإِيجَابُ الْغَسْلِ عَلَيْهِ مَعَ الْمُخَالَطَةِ عُسْرٌ وَحَرَجٌ ، وَلَا يُنَاسِبُهُ الْإِذْنُ وَالْإِبَاحَةُ فِي الِاتِّخَاذِ . وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقَرِينَةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ النَّهْيِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : الْإِنَاءُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ إنَاءٍ . وَالْأَمْرُ بِغَسْلِهِ لِلنَّجَاسَةِ . إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَنْجِيسَ مَا فِيهِ ، فَيَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ . وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ : قَوْلٌ : إنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ ، وَأَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ لَا يُرَاقُ وَلَا يُجْتَنَبُ . وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْإِرَاقَةِ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : ظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ . وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلٌ : إنَّهُ لِلنَّدْبِ وَكَأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ طَهَارَةَ الْكَلْبِ - بِالدَّلِيلِ الَّذِي دَلَّهُ عَلَى ذَلِكَ - جَعَلَ ذَلِكَ قَرِينَةً صَارِفَةً لِلْأَمْرِ عَنْ ظَاهِرِهِ . مِنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ . وَالْأَمْرُ قَدْ يُصْرَفُ عَنْ ظَاهِرِهِ بِالدَّلِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ " بِالتُّرَابِ " يَقْتَضِي تَعَيُّنَهُ . وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ - أَوْ وَجْهٌ - إنَّ الصَّابُونَ وَالْأُشْنَانَ وَالْغَسْلَةُ الثَّامِنَةُ ، تَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتُّرَابِ : زِيَادَةُ التَّنْظِيفِ ، وَأَنَّ الصَّابُونَ وَالْأُشْنَانَ يَقُومَانِ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا عِنْدَنَا ضَعِيفٌ . ؛ لِأَنَّ النَّصَّ إذَا وَرَدَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ ، وَاحْتَمَلَ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَمْ يَجُزْ إلْغَاءُ النَّصِّ ، وَاطِّرَاحُ خُصُوصِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ . وَالْأَمْرُ بِالتُّرَابِ - وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِمَا ذَكَرُوهُ ، وَهُوَ زِيَادَةُ التَّنْظِيفِ - فَلَا نَجْزِمُ بِتَعْيِينِ ذَلِكَ الْمَعْنَى . فَإِنَّهُ يُزَاحِمُهُ مَعْنًى آخَرُ ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُطَهِّرَيْنِ ، أَعْنِي الْمَاءَ وَالتُّرَابَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ . وَأَيْضًا ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُسْتَنْبَطَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سِوَى مُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ ، فَلَيْسَتْ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْقَوِيِّ . فَإِذَا وَقَعَتْ فِيهَا الِاحْتِمَالَاتُ ، فَالصَّوَابُ اتِّبَاعُ النَّصِّ . وَأَيْضًا ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطَ إذَا عَادَ عَلَى النَّصِّ بِإِبْطَالٍ أَوْ تَخْصِيصٍ : مَرْدُودٌ عِنْدَ جَمْعٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ .